مؤلف الكتاب د-يوسف زيدان
يصل بنا كتاب اللاهوت العربى إلى محطته الثالثة ليبدأ فى قراءة الإسلام ونزول القرآن، كتابا عربياً بلغة مبينة، فى شبه الجزيرة العربية. ليؤكد د. يوسف زيدان مؤلف الكتاب أن القرآن ومنذ اللحظة الأولى لنزوله كان مشتبكاً مع واقع المجتمع الذى نزل عليه. يتحدث بلغتهم، ويستخدم بلاغتهم، ويحدثهم عن أحداث وقعت لهم ولغيرهم من الأمم.
فيحكى محاولة أبرهة ملك الحبشة هدم الكعبة وكيف انتقمت السماء منه «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل»، ويقص عليهم تفاصيل حياتهم ومعيشتهم «لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف» ويروى لهم ما حدث بين القوتين العظميين فى العالم وقتها مبشرا بانتصار المهزوم: «غلبت الروم فى أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين»، ويحذرهم مغبة ارتكاب عادات محرمة من السماء: «وإذا الموءدة سئلت بأى ذنب قتلت».
ليس هذا فحسب بل إن القرآن الذى بدا منذ اللحظة الأولى لنزوله مشتبكاً مع ما فى البيئة العربية من وقائع، وما فى العقلية البدوية من سمات، يتواصل فى نزول آياته ويخصص جزءاً مهماً منها للقصص القرآنى وحياة الرسل والأنبياء، فى سور «مريم» و«هود» و«يوسف» و«إبراهيم» و«لقمان» و«يونس»،
كما قدم عبر آياته القرآنية فى سور أخرى قصص معظم أنبياء التوراة بشكل يمكننا من القول بأنه أعاد بناء الشخصيات النبوية فى القرآن بما يناسب مكانتهم وبما لا تستنتج منه صفات إلهية كتلك التى يمكن استنباطها من القصص التوراتية، وبلغة قرآنية راقية تأخذ القارئ أو المستمع لها إلى حضرة علوية لا يشوبها لفظ ردىء ولا معنى غير لائق بالله وأنبيائه. «فآدم» هو الإنسان الذى أخطأ بعصيان أوامر الله، ثم تاب عن معصيته بمساعدة الله، وهو ما يعلق د. زيدان عليه بالقول: مع هذا الطرح القرآنى لآدم لم يعد هناك مبرر لأن سخط الله على عباده من البشر الذين لم يشهدوا الخلق الأول، فآدم أخطأ وتاب وليس من العدل أن ترث ذريته خطيئته أو أن تحاسب عليها، فالآية صريحة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».
كما أن النبى إبراهيم فى القرآن ليس كما حكت عنه التوراة، فالقرآن يذكره مشدداً على قيمته فى تاريخ البشرية الدينى، فيقول عنه فى سورة النحل: «إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين»، ويقول عنه فى سورة آل عمران: «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين» فالقرآن ينفى أن يكون أبو الأنبياء من اليهود أو من النصارى مؤكداً: «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا».
حتى عندما روى القرآن غواية امرأة العزيز للنبى يوسف بن يعقوب، جاءت الصيغة وقورة بعيدة عن فجاجة الوصف: «وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله». وهو أمر طبيعى يفرق بين البلاغة الإلهية وبين اللسان البشرى. وهكذا يقدم القرآن الإسلام باعتباره الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسبب أنه هو اليقين الموحى من رب العالمين، وليس اجتهاداً جاء نتيجة فكر المتفكرين».
وكما حلت المسيحية إشكالية صفات الله فى اليهودية، جاء القرآن ليتجلى الله فيه وبقوة بدءا من: «بسم الله الرحمن الرحيم» مروراً بالآيات المخبرة عن حضرته العليا التى لا مثيل لها: «قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد»، و «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح فى زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درى، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شىء عليم».
وهو ما يعلق عليه دكتور زيدان بالقول: «سطع الله بقوة فى القرآن حتى لا يكاد اسمه يغيب عن سطر واحد ولا يكاد حضوره يفارق أى معنى من المعانى القرآنية، وبذلك عاد اللاهوت إلى صدارة المعتقد الدينى وتوارى الناسوت حتى ما كان منه نبوياً. تراجع الناسوت من روح الإسلام لصالح السطوع اللاهوتى لرب العالمين الذى تكرر ورود اسمه فى القرآن 2699 مرة، هذا غير المرات التى ورد فيها ذكره عبر صفاته الإلهية، كالقدير والعليم والسميع والجبار والقادر والباسط والخافض والرافع وغيرها من الصفات، كان الله هو المهيمن على الخطاب القرآنى».
وتجىء لحظة الفصل الإلهى فى الخلافات المسيحية-المسيحية حول حقيقة طبيعة السيد المسيح عليه السلام، لا من باب التعالى أو التقليل من شأن المسيحية ولكن من باب التأكيد على حقيقة سردها المؤلف منذ سطور الكتاب الأولى ألا وهى أن الأديان الرسالية الثلاثة ذات جوهر واحد، فالقرآن أعاد بناء الكثير من المفاهيم المتعلقة بتلك القضية، ثم أعاد طرحها مرة أخرى بأسلوب جدلى لا جدالى، على حد وصف دكتور يوسف زيدان، فكان المنطق المتصاعد للأحداث ينتهى بالعقل لتقبل النتائج المرتبطة بالمقدمات، متناسق فى ذلك مع ذاته حيث قدم نفسه للناس كوحى إلهى لا نقص فيه، إما أن تأخذه كله وتؤمن به، أو تتركه كله. وفى هذا يقول دكتور يوسف زيدان: «لا يجوز مع القرآن أن نؤمن بشىء فيه دون شىء آخر،
ولذا استنكرت الآية الخامسة والثمانون من سورة البقرة تبعيض القرآن، بقوله تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون» ولذا فعندما بدأ الحديث القرآنى عن المسيح لم يذكر إلا مقترناً باسم أمه ما عدا فى ثلاث مواضع من بينها: «وقالت النصارى المسيح ابن الله» أما العذراء مريم فقد ورد ذكرها 34 مرة فى القرآن وخصص الله لها سورة بديعة تحمل اسمها، وسورة أخرى تحمل اسم أسرتها «آل عمران».
بينما لم تخصص سورة تحمل اسم المسيح. ومريم القرآنية ليست أم الإله، وليست أم النور الحقيقى، ولكنها قديسة صديقة وهبتها أمها لله قبل حتى أن تضعها، وهذه القديسة أحصنت فرجها فأرسل الله لها الروح القدس أو الروح الأمين الملاك «جبريل» على هيئة بشرية، كتلك التى كان يهبط بها على النبى محمد، ليوصل لها النفخة الإلهية الخالقة، فحملت بالمسيح. هكذا وببساطة أبعد القرآن تماماً أية شبهة للاتصال المباشر بين الله والإنسان».
ويعرض الدكتور يوسف زيدان عبر اللاهوت العربى بعض الآيات القرآنية التى تصف العلاقة بين الله الخالق المنزه عن كل نقص، وبين نبيه ورسوله المسيح عيسى بن مريم وكيف صار خلقاً ليكون هبة الله لمريم العذراء مثلما كان يمنحها الرزق الذى كان يثير حيرة النبى زكريا زوج خالتها: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا، قالت هو من عند الله»، ويرشدها لكيفية الحصول على ما يسند ضعفها هى ووليدها «وهزى إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً.» وبعد سرد كل الوقائع الخاصة بمعجزة ميلاد المسيح يأتى القول الفصل فيه وفى كينونته «ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه» وفى موضع آخر من سورة المائدة يحمل صيغة العتاب الإلهى للرسول يقول تعالى: «وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».
لم تكن طبيعة المسيح وحقيقة كينونته فقط ما حسمها القرآن الإسلامى، ولكن تعلق الحسم بجزء آخر هو «الأمانة» التى أخرجها عن معناها الاصطلاحى المسيحى، وجعلها أمراً إنسانيا عاماً يرتبط بالإدراك السليم، فكانت مرادفاً للعقل فقال الله فى قرآنه «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً».
وبتلك الجزئية يمهد الدكتور زيدان الحديث للحديث عن الكلام الإلهى «القرآن» فيقول: «هو مطلق أكد الله فيه على ثلاث حقائق أولاها أنه باللغة العربية مشيراً لذلك فى أكثر من موضع منها «قرآناً عربياً غير ذى عوج» و«إنا أنزلناه قرآناً عربياً» و«وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً»، وقد حاجج الله عباده بلطف فى أمر اللغة التى نزل بها القرآن فقال فى الآية 44 من سورة فصلت:«ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته، أعجمى وعربى، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء وللذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد.» والآيات الأخيرة تشير إلى الحقيقتين الأخيرتين وهما سمع المؤمنين الذين يتلى عليهم القرآن فيهدى قلوبهم، والأخرى أولئك الذين ينادون من مكان بعيد أى أنهم غير مؤمنين».
بعد ذلك يحلل دكتور زيدان كيف توافق الإسلام مع العقلية البراجماتية العربية التى لا تعنى بالواقع فمدهم القرآن فى آياته المدنية بنظام لحياتهم وزاد الأمر فتحول الدين على يدهم إلى راية يحاربون تحتها من أجل تأسيس الدولة، وتوسعة حدودها ومن هنا جاء الأمر القرآنى «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.» و«واقتلوهم حيث ثقفتموهم».
وقاتل المسلمون المشركين حتى خلت منهم جزيرة العرب وصارت عن بكرة أبيها أرضاً إسلامية. ومع الفتوحات الإسلامية للمناطق التى كانت تعيش فيها المذاهب المسيحية الأرثوذكسية والآريوسية والنسطورية انتقل القرآن إلى غير الناطقين به، الذين ينادون من مكان بعيد، لينشأ فى نفس المنطقة التى ظهر فيها اللاهوت العربى المسيحى، علم الكلام الإسلامى.
هنا يبدأ الفصل السادس للاهوت العربى، معنوناً باسم «كلام الإسلام» يوضح فيه دكتور يوسف زيدان ماهية هذا العلم وطبيعته وكيف أن العلماء منحوه أكثر من توصيف زادت من تعقيد دراسته، حيث يسمى فى التراث العربى الإسلامى الفقه الأكبر، وأصول الدين، وعلم العقيدة، وعلم التوحيد.
ورغم كونه واحداً فى مضمونه إلا أن دارسى الفلسفة فى كليات الآداب يطلقون عليه «علم الكلام» بينما يطلق عليه الأزهريون «أصول الدين». وقد ظهرت بدايات هذا العلم فى القرن الأول الهجرى عقب انتشار الإسلام واستقراره فى البلاد التى تم فتحها، وكانت كل أسمائه مشتقة من أن القرآن كلام الله وأن المشتغلين بهذا العلم هم المهتمون بمفهوم النص القرآنى أى المتكلمون فى العقيدة المدافعون عن التوحيد وأصول الدين ضد الانحرافات العقائدية. وقد عرفه الفيلسوف الفارابى بأنه صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التى صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها.
وكثرت تعريفات علم الكلام لدى علماء المسلمين واشتهر عدد منها مثل تعريف ابن خلدون الذى قال: هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المنحرفين فى الاعتقادات. إلا أن دكتور يوسف زيدان يميل لتعريف الإمام محمد عبده الذى يقول فيه: «هو علم يبحث عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات وما يجوز أن يوصف به وما يجب أن يُنفى عنه». ويبرر دكتور زيدان ذلك التحيز بالقول: «تعريف الإمام محمد عبده عبقرى لأنه عاد بهذا العلم إلى منابعه الأولى وعرفه بأولى المفاهيم التى انطلقت منه والمرتبطة بالصفات الإلهية».
ثم ينقل بك الحديث إلى أشهر فرق المتكلمين وهما المعتزلة والأشاعرة، اللذان ذاع صيتهما لوضوح مذهبهما وكثرة المشتغلين بالاعتزال والأشعرية. إلا أن البداية الدرامية لهذين المذهبين، قد تكون سبباً فى شهرتهما كما يقول دكتور زيدان.
حيث بدأت المعتزلة حينما دخل رجل على مجلس الإمام الحسن البصرى يسأله فى صحة ما يدعيه الخوارج من تكفير مرتكب الكبيرة، ليندفع العالم واصل بن عطاء أحد تلاميذ البصرى للرد على سؤال الرجل مؤكداً أن مرتكب الكبيرة لا هو كافر ولا هو مؤمن بل فى منزلة بين المنزلتين، ثم قام ابن عطاء وجلس فى أحد أركان المسجد والتف حوله بعض القوم يستزيدون الفهم منه، فقال البصرى «اعتزلنا واصل وأصحابه» فسموا لذلك «المعتزلة ولينتشر مذهب المعتزلة العقلانى حتى مجىء أبى الحسن الأشعرى مؤسس الأشاعرة.
وتقول قصته إنه كان تلميذا «للجبائى» أحد كبار علماء المعتزلة. وفى أحد الأيام جاء رجل يسأل الجبائى عن حكم إخوة ثلاثة فى الآخرة مات أحدهم مؤمناً ومات الثانى كافرا ومات الثالث طفلاً صغيراً، فقال الجبائى بدخول المؤمن الجنة ودخول الكافر النار بينما الطفل الصغير إلى عدم، لا يدخل الجنة ولا يدخل النار.
فسأل الأشعرى شيخه وماذا لو قال الطفل لله ماذا لو تركتنى حيا فى الأرض، كنت قد اكتسبت ثوابا أدخل به الجنة، فقال الجبائى سيقول له الله إنه لو كان قد تركه لكان اقترف ذنوبا استحق معها دخول النار، وقد رحمه بموته صغيراً. فرد الأشعرى أنه ساعتها سيقول الأخ الذى دخل النار لربه، ولماذا يا رب لم تمتنى صغيراً وترحمنى من اقتراف الذنوب التى دخلت بسببها النار مثلما فعلت مع أخى.
فلم يجد الجبائى إجابة واحتقن وجهه ووصف الأشعرى بأنه مجنون، هنا خرج الأشعرى من المجلس وصاح على باب المسجد معلناً توبته عن المعتزلة ونيته الرد على مذهبهم وفضح معايبهم. وصاغ الأشعرى مذهبه الكلامى ليكون وسطاً بين الإفراط فى التأويل العقلى لدى المعتزلة، وبين قبول النص الدينى بحرفيته مثلما فعل أصحاب الاتجاهات المضادة لمذهب الاعتزال.
ويقف الدكتور زيدان هنا وقفة مع قرائه يؤكد فيها أنه قبل المعتزلة والأشاعرة كان هناك بدايات لعلم الكلام فى نفس المنطقة التى ظهر فيها اللاهوت العربى المسيحى. وأن هؤلاء البادئين كانوا بمثابة آباء الكلام بل أنه يحدد أربعة منهم استكملوا الطريق الذى بدأه أسلافهم المسيحيون فظهر معهم وبهم علم الكلام الذى يراه زيدان امتداداً طبيعيا لما يطلق عليه اللاهوت العربى.
وهم «معبد الجهنى» الذى عاش بالبصرة وتوفى سنة 80 هجرية، وكان من الرواة الثقاة للحديث النبوى، وشارك فى الأحداث السياسية والثورات التى هاجت فى عصره. وقد دارت «هرطقته» أو بدعته حول نقطة واحدة هى نفى القول بالقدر، ورغم ذلك سمى مذهبه بالقدرية على عكس دلالته. وقد كان معبد يخالف المذهب الجبرى الذى عمل الأمويون على تعميمه بين الناس ليبدو حكمهم من الله وأن الإنسان ليس بيده شيء.
ولذا قال الجهنى: «لا قدر والأمر أُنف». أى أن السلطان مفروض بسطوة الحكام ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر الإلهيين، فالمفروض على الناس فرضه آخرون. الطريف هو ما يقوله المؤرخون ويؤكد مرة أخرى حديث دكتور زيدان عن الجذور الواحدة لكل الأديان، وهى أن أستاذ جهنى كان نصرانيا يدعى «سوسر» وكان أول من تكلم فى القدر. ثم يأتى الحديث عن غيلان الدمشقى الذى عاش فى القرن الأول بدمشق واشتهر بصلاحه وورعه وتقواه فعهد له الخليفة عمر بن عبدالعزيز بتصفية أموال الظالمين من أقاربه.
وكانت بدعة الدمشقى فى وقته أنه أعلن أن الإنسان مختار وأنه سيحاسب على اختياره وهو الأمر الذى توسع فيه المعتزلة فيما بعد وتحول لنظرية الحرية الإنسانية التى ناقضت تماماً مبدأ الجبرية، وقد خالف عمر بن عبد العزيز آراء صديقه، وزاد الأمر فقتله الخليفة هشام بن عبد الملك. وتمادى بعض مؤرخى علم الكلام فى رفض فكر الدمشقى فرووا حديثاً نبويا يذكر غيلان الدمشقى بالاسم ويقرنه بالشيطان الرجيم. ويجيء الجعد بن درهم فى الترتيب الثالث فى قائمة علماء الكلام الأربعة، عاش بالشام وعمل مؤدباً لأبناء الخلفاء. وكان فكره أن الله منزه عن صفات الحدوث، كما كان ينكر بعض الصفات الإلهية ومنها الكلام، فرفض القول القرآنى أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى لأن ذلك لا يجوز على الله.
أما الجهم بن صفوان فهو آخر وأخطر الآباء الأربعة كما يقول دكتور زيدان، الذى توفى فى عام 128 هجرية ويعتبر مؤسس حركة الاعتزال وكان يؤمن بخلق القرآن لا نزوله على مراحل، وينزه الله من الصفات ويقول إن الله فى كل الأمكنة. وقد أخرجه علماء الإسلام مع من اتبع مذهبه من الإسلام.
ويعلق الدكتور زيدان على مصير هؤلاء العلماء الأربعة بالقول: «هل كان قول هؤلاء الآباء الأربعة الذى صرحوا به فى القرن الأول الهجرى سببا لما رأيناه من السلف والحكام الأمويين نحوهم؟ أم أن الناس وقتها استشعروا منهم خطراً ونقلة غريبة من الموروث المسيحى السابق، فكان القمع؟ الحقيقة أن هؤلاء العلماء ارتبطوا بالتراث المسيحى العربى السابق عليهم فى تلك المنطقة عن طريق الأساتذة الذين تلقوا عنهم البدع والهرطقات.
فأفزعت علماء المسلمين وبخاصة من أهل السنة، كما أفزعت رجال الكنيسة الأرثوذكسية من قبل. حتى إن آباء الكلام لقوا مصائر مفزعة تذكرنا بعصر الشهداء ومعاناة آباء الكنيسة الأوائل.
والحقيقة أن الإرهاصات الأولى لعلم الكلام لم تكن بمثابة خروج عن روح الإسلام، بقدر ما كانت دخولا فى التراث العربى اللاهوتى الذى لم يكن يتحدث العربية من قبل، ثم نطق بها مع الآباء الأربعة». وهكذا يختتم دكتور يوسف زيدان مبحثه فى اللاهوت العربى بفصل علم الكلام إلا أنه وكما بدأ بمقدمة تجبرك على قراءتها، اختتم الحديث بخاتمة المقال الذى زاد عليه من الحقائق... حقائق نعرفها غداً فى الحلقة الرابعة والأخيرة.
يصل بنا كتاب اللاهوت العربى إلى محطته الثالثة ليبدأ فى قراءة الإسلام ونزول القرآن، كتابا عربياً بلغة مبينة، فى شبه الجزيرة العربية. ليؤكد د. يوسف زيدان مؤلف الكتاب أن القرآن ومنذ اللحظة الأولى لنزوله كان مشتبكاً مع واقع المجتمع الذى نزل عليه. يتحدث بلغتهم، ويستخدم بلاغتهم، ويحدثهم عن أحداث وقعت لهم ولغيرهم من الأمم.
فيحكى محاولة أبرهة ملك الحبشة هدم الكعبة وكيف انتقمت السماء منه «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل»، ويقص عليهم تفاصيل حياتهم ومعيشتهم «لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف» ويروى لهم ما حدث بين القوتين العظميين فى العالم وقتها مبشرا بانتصار المهزوم: «غلبت الروم فى أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين»، ويحذرهم مغبة ارتكاب عادات محرمة من السماء: «وإذا الموءدة سئلت بأى ذنب قتلت».
ليس هذا فحسب بل إن القرآن الذى بدا منذ اللحظة الأولى لنزوله مشتبكاً مع ما فى البيئة العربية من وقائع، وما فى العقلية البدوية من سمات، يتواصل فى نزول آياته ويخصص جزءاً مهماً منها للقصص القرآنى وحياة الرسل والأنبياء، فى سور «مريم» و«هود» و«يوسف» و«إبراهيم» و«لقمان» و«يونس»،
كما قدم عبر آياته القرآنية فى سور أخرى قصص معظم أنبياء التوراة بشكل يمكننا من القول بأنه أعاد بناء الشخصيات النبوية فى القرآن بما يناسب مكانتهم وبما لا تستنتج منه صفات إلهية كتلك التى يمكن استنباطها من القصص التوراتية، وبلغة قرآنية راقية تأخذ القارئ أو المستمع لها إلى حضرة علوية لا يشوبها لفظ ردىء ولا معنى غير لائق بالله وأنبيائه. «فآدم» هو الإنسان الذى أخطأ بعصيان أوامر الله، ثم تاب عن معصيته بمساعدة الله، وهو ما يعلق د. زيدان عليه بالقول: مع هذا الطرح القرآنى لآدم لم يعد هناك مبرر لأن سخط الله على عباده من البشر الذين لم يشهدوا الخلق الأول، فآدم أخطأ وتاب وليس من العدل أن ترث ذريته خطيئته أو أن تحاسب عليها، فالآية صريحة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».
كما أن النبى إبراهيم فى القرآن ليس كما حكت عنه التوراة، فالقرآن يذكره مشدداً على قيمته فى تاريخ البشرية الدينى، فيقول عنه فى سورة النحل: «إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين»، ويقول عنه فى سورة آل عمران: «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين» فالقرآن ينفى أن يكون أبو الأنبياء من اليهود أو من النصارى مؤكداً: «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا».
حتى عندما روى القرآن غواية امرأة العزيز للنبى يوسف بن يعقوب، جاءت الصيغة وقورة بعيدة عن فجاجة الوصف: «وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله». وهو أمر طبيعى يفرق بين البلاغة الإلهية وبين اللسان البشرى. وهكذا يقدم القرآن الإسلام باعتباره الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسبب أنه هو اليقين الموحى من رب العالمين، وليس اجتهاداً جاء نتيجة فكر المتفكرين».
وكما حلت المسيحية إشكالية صفات الله فى اليهودية، جاء القرآن ليتجلى الله فيه وبقوة بدءا من: «بسم الله الرحمن الرحيم» مروراً بالآيات المخبرة عن حضرته العليا التى لا مثيل لها: «قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد»، و «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح فى زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درى، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شىء عليم».
وهو ما يعلق عليه دكتور زيدان بالقول: «سطع الله بقوة فى القرآن حتى لا يكاد اسمه يغيب عن سطر واحد ولا يكاد حضوره يفارق أى معنى من المعانى القرآنية، وبذلك عاد اللاهوت إلى صدارة المعتقد الدينى وتوارى الناسوت حتى ما كان منه نبوياً. تراجع الناسوت من روح الإسلام لصالح السطوع اللاهوتى لرب العالمين الذى تكرر ورود اسمه فى القرآن 2699 مرة، هذا غير المرات التى ورد فيها ذكره عبر صفاته الإلهية، كالقدير والعليم والسميع والجبار والقادر والباسط والخافض والرافع وغيرها من الصفات، كان الله هو المهيمن على الخطاب القرآنى».
وتجىء لحظة الفصل الإلهى فى الخلافات المسيحية-المسيحية حول حقيقة طبيعة السيد المسيح عليه السلام، لا من باب التعالى أو التقليل من شأن المسيحية ولكن من باب التأكيد على حقيقة سردها المؤلف منذ سطور الكتاب الأولى ألا وهى أن الأديان الرسالية الثلاثة ذات جوهر واحد، فالقرآن أعاد بناء الكثير من المفاهيم المتعلقة بتلك القضية، ثم أعاد طرحها مرة أخرى بأسلوب جدلى لا جدالى، على حد وصف دكتور يوسف زيدان، فكان المنطق المتصاعد للأحداث ينتهى بالعقل لتقبل النتائج المرتبطة بالمقدمات، متناسق فى ذلك مع ذاته حيث قدم نفسه للناس كوحى إلهى لا نقص فيه، إما أن تأخذه كله وتؤمن به، أو تتركه كله. وفى هذا يقول دكتور يوسف زيدان: «لا يجوز مع القرآن أن نؤمن بشىء فيه دون شىء آخر،
ولذا استنكرت الآية الخامسة والثمانون من سورة البقرة تبعيض القرآن، بقوله تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون» ولذا فعندما بدأ الحديث القرآنى عن المسيح لم يذكر إلا مقترناً باسم أمه ما عدا فى ثلاث مواضع من بينها: «وقالت النصارى المسيح ابن الله» أما العذراء مريم فقد ورد ذكرها 34 مرة فى القرآن وخصص الله لها سورة بديعة تحمل اسمها، وسورة أخرى تحمل اسم أسرتها «آل عمران».
بينما لم تخصص سورة تحمل اسم المسيح. ومريم القرآنية ليست أم الإله، وليست أم النور الحقيقى، ولكنها قديسة صديقة وهبتها أمها لله قبل حتى أن تضعها، وهذه القديسة أحصنت فرجها فأرسل الله لها الروح القدس أو الروح الأمين الملاك «جبريل» على هيئة بشرية، كتلك التى كان يهبط بها على النبى محمد، ليوصل لها النفخة الإلهية الخالقة، فحملت بالمسيح. هكذا وببساطة أبعد القرآن تماماً أية شبهة للاتصال المباشر بين الله والإنسان».
ويعرض الدكتور يوسف زيدان عبر اللاهوت العربى بعض الآيات القرآنية التى تصف العلاقة بين الله الخالق المنزه عن كل نقص، وبين نبيه ورسوله المسيح عيسى بن مريم وكيف صار خلقاً ليكون هبة الله لمريم العذراء مثلما كان يمنحها الرزق الذى كان يثير حيرة النبى زكريا زوج خالتها: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا، قالت هو من عند الله»، ويرشدها لكيفية الحصول على ما يسند ضعفها هى ووليدها «وهزى إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً.» وبعد سرد كل الوقائع الخاصة بمعجزة ميلاد المسيح يأتى القول الفصل فيه وفى كينونته «ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه» وفى موضع آخر من سورة المائدة يحمل صيغة العتاب الإلهى للرسول يقول تعالى: «وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».
لم تكن طبيعة المسيح وحقيقة كينونته فقط ما حسمها القرآن الإسلامى، ولكن تعلق الحسم بجزء آخر هو «الأمانة» التى أخرجها عن معناها الاصطلاحى المسيحى، وجعلها أمراً إنسانيا عاماً يرتبط بالإدراك السليم، فكانت مرادفاً للعقل فقال الله فى قرآنه «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً».
وبتلك الجزئية يمهد الدكتور زيدان الحديث للحديث عن الكلام الإلهى «القرآن» فيقول: «هو مطلق أكد الله فيه على ثلاث حقائق أولاها أنه باللغة العربية مشيراً لذلك فى أكثر من موضع منها «قرآناً عربياً غير ذى عوج» و«إنا أنزلناه قرآناً عربياً» و«وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً»، وقد حاجج الله عباده بلطف فى أمر اللغة التى نزل بها القرآن فقال فى الآية 44 من سورة فصلت:«ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته، أعجمى وعربى، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء وللذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد.» والآيات الأخيرة تشير إلى الحقيقتين الأخيرتين وهما سمع المؤمنين الذين يتلى عليهم القرآن فيهدى قلوبهم، والأخرى أولئك الذين ينادون من مكان بعيد أى أنهم غير مؤمنين».
بعد ذلك يحلل دكتور زيدان كيف توافق الإسلام مع العقلية البراجماتية العربية التى لا تعنى بالواقع فمدهم القرآن فى آياته المدنية بنظام لحياتهم وزاد الأمر فتحول الدين على يدهم إلى راية يحاربون تحتها من أجل تأسيس الدولة، وتوسعة حدودها ومن هنا جاء الأمر القرآنى «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.» و«واقتلوهم حيث ثقفتموهم».
وقاتل المسلمون المشركين حتى خلت منهم جزيرة العرب وصارت عن بكرة أبيها أرضاً إسلامية. ومع الفتوحات الإسلامية للمناطق التى كانت تعيش فيها المذاهب المسيحية الأرثوذكسية والآريوسية والنسطورية انتقل القرآن إلى غير الناطقين به، الذين ينادون من مكان بعيد، لينشأ فى نفس المنطقة التى ظهر فيها اللاهوت العربى المسيحى، علم الكلام الإسلامى.
هنا يبدأ الفصل السادس للاهوت العربى، معنوناً باسم «كلام الإسلام» يوضح فيه دكتور يوسف زيدان ماهية هذا العلم وطبيعته وكيف أن العلماء منحوه أكثر من توصيف زادت من تعقيد دراسته، حيث يسمى فى التراث العربى الإسلامى الفقه الأكبر، وأصول الدين، وعلم العقيدة، وعلم التوحيد.
ورغم كونه واحداً فى مضمونه إلا أن دارسى الفلسفة فى كليات الآداب يطلقون عليه «علم الكلام» بينما يطلق عليه الأزهريون «أصول الدين». وقد ظهرت بدايات هذا العلم فى القرن الأول الهجرى عقب انتشار الإسلام واستقراره فى البلاد التى تم فتحها، وكانت كل أسمائه مشتقة من أن القرآن كلام الله وأن المشتغلين بهذا العلم هم المهتمون بمفهوم النص القرآنى أى المتكلمون فى العقيدة المدافعون عن التوحيد وأصول الدين ضد الانحرافات العقائدية. وقد عرفه الفيلسوف الفارابى بأنه صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التى صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها.
وكثرت تعريفات علم الكلام لدى علماء المسلمين واشتهر عدد منها مثل تعريف ابن خلدون الذى قال: هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المنحرفين فى الاعتقادات. إلا أن دكتور يوسف زيدان يميل لتعريف الإمام محمد عبده الذى يقول فيه: «هو علم يبحث عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات وما يجوز أن يوصف به وما يجب أن يُنفى عنه». ويبرر دكتور زيدان ذلك التحيز بالقول: «تعريف الإمام محمد عبده عبقرى لأنه عاد بهذا العلم إلى منابعه الأولى وعرفه بأولى المفاهيم التى انطلقت منه والمرتبطة بالصفات الإلهية».
ثم ينقل بك الحديث إلى أشهر فرق المتكلمين وهما المعتزلة والأشاعرة، اللذان ذاع صيتهما لوضوح مذهبهما وكثرة المشتغلين بالاعتزال والأشعرية. إلا أن البداية الدرامية لهذين المذهبين، قد تكون سبباً فى شهرتهما كما يقول دكتور زيدان.
حيث بدأت المعتزلة حينما دخل رجل على مجلس الإمام الحسن البصرى يسأله فى صحة ما يدعيه الخوارج من تكفير مرتكب الكبيرة، ليندفع العالم واصل بن عطاء أحد تلاميذ البصرى للرد على سؤال الرجل مؤكداً أن مرتكب الكبيرة لا هو كافر ولا هو مؤمن بل فى منزلة بين المنزلتين، ثم قام ابن عطاء وجلس فى أحد أركان المسجد والتف حوله بعض القوم يستزيدون الفهم منه، فقال البصرى «اعتزلنا واصل وأصحابه» فسموا لذلك «المعتزلة ولينتشر مذهب المعتزلة العقلانى حتى مجىء أبى الحسن الأشعرى مؤسس الأشاعرة.
وتقول قصته إنه كان تلميذا «للجبائى» أحد كبار علماء المعتزلة. وفى أحد الأيام جاء رجل يسأل الجبائى عن حكم إخوة ثلاثة فى الآخرة مات أحدهم مؤمناً ومات الثانى كافرا ومات الثالث طفلاً صغيراً، فقال الجبائى بدخول المؤمن الجنة ودخول الكافر النار بينما الطفل الصغير إلى عدم، لا يدخل الجنة ولا يدخل النار.
فسأل الأشعرى شيخه وماذا لو قال الطفل لله ماذا لو تركتنى حيا فى الأرض، كنت قد اكتسبت ثوابا أدخل به الجنة، فقال الجبائى سيقول له الله إنه لو كان قد تركه لكان اقترف ذنوبا استحق معها دخول النار، وقد رحمه بموته صغيراً. فرد الأشعرى أنه ساعتها سيقول الأخ الذى دخل النار لربه، ولماذا يا رب لم تمتنى صغيراً وترحمنى من اقتراف الذنوب التى دخلت بسببها النار مثلما فعلت مع أخى.
فلم يجد الجبائى إجابة واحتقن وجهه ووصف الأشعرى بأنه مجنون، هنا خرج الأشعرى من المجلس وصاح على باب المسجد معلناً توبته عن المعتزلة ونيته الرد على مذهبهم وفضح معايبهم. وصاغ الأشعرى مذهبه الكلامى ليكون وسطاً بين الإفراط فى التأويل العقلى لدى المعتزلة، وبين قبول النص الدينى بحرفيته مثلما فعل أصحاب الاتجاهات المضادة لمذهب الاعتزال.
ويقف الدكتور زيدان هنا وقفة مع قرائه يؤكد فيها أنه قبل المعتزلة والأشاعرة كان هناك بدايات لعلم الكلام فى نفس المنطقة التى ظهر فيها اللاهوت العربى المسيحى. وأن هؤلاء البادئين كانوا بمثابة آباء الكلام بل أنه يحدد أربعة منهم استكملوا الطريق الذى بدأه أسلافهم المسيحيون فظهر معهم وبهم علم الكلام الذى يراه زيدان امتداداً طبيعيا لما يطلق عليه اللاهوت العربى.
وهم «معبد الجهنى» الذى عاش بالبصرة وتوفى سنة 80 هجرية، وكان من الرواة الثقاة للحديث النبوى، وشارك فى الأحداث السياسية والثورات التى هاجت فى عصره. وقد دارت «هرطقته» أو بدعته حول نقطة واحدة هى نفى القول بالقدر، ورغم ذلك سمى مذهبه بالقدرية على عكس دلالته. وقد كان معبد يخالف المذهب الجبرى الذى عمل الأمويون على تعميمه بين الناس ليبدو حكمهم من الله وأن الإنسان ليس بيده شيء.
ولذا قال الجهنى: «لا قدر والأمر أُنف». أى أن السلطان مفروض بسطوة الحكام ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر الإلهيين، فالمفروض على الناس فرضه آخرون. الطريف هو ما يقوله المؤرخون ويؤكد مرة أخرى حديث دكتور زيدان عن الجذور الواحدة لكل الأديان، وهى أن أستاذ جهنى كان نصرانيا يدعى «سوسر» وكان أول من تكلم فى القدر. ثم يأتى الحديث عن غيلان الدمشقى الذى عاش فى القرن الأول بدمشق واشتهر بصلاحه وورعه وتقواه فعهد له الخليفة عمر بن عبدالعزيز بتصفية أموال الظالمين من أقاربه.
وكانت بدعة الدمشقى فى وقته أنه أعلن أن الإنسان مختار وأنه سيحاسب على اختياره وهو الأمر الذى توسع فيه المعتزلة فيما بعد وتحول لنظرية الحرية الإنسانية التى ناقضت تماماً مبدأ الجبرية، وقد خالف عمر بن عبد العزيز آراء صديقه، وزاد الأمر فقتله الخليفة هشام بن عبد الملك. وتمادى بعض مؤرخى علم الكلام فى رفض فكر الدمشقى فرووا حديثاً نبويا يذكر غيلان الدمشقى بالاسم ويقرنه بالشيطان الرجيم. ويجيء الجعد بن درهم فى الترتيب الثالث فى قائمة علماء الكلام الأربعة، عاش بالشام وعمل مؤدباً لأبناء الخلفاء. وكان فكره أن الله منزه عن صفات الحدوث، كما كان ينكر بعض الصفات الإلهية ومنها الكلام، فرفض القول القرآنى أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى لأن ذلك لا يجوز على الله.
أما الجهم بن صفوان فهو آخر وأخطر الآباء الأربعة كما يقول دكتور زيدان، الذى توفى فى عام 128 هجرية ويعتبر مؤسس حركة الاعتزال وكان يؤمن بخلق القرآن لا نزوله على مراحل، وينزه الله من الصفات ويقول إن الله فى كل الأمكنة. وقد أخرجه علماء الإسلام مع من اتبع مذهبه من الإسلام.
ويعلق الدكتور زيدان على مصير هؤلاء العلماء الأربعة بالقول: «هل كان قول هؤلاء الآباء الأربعة الذى صرحوا به فى القرن الأول الهجرى سببا لما رأيناه من السلف والحكام الأمويين نحوهم؟ أم أن الناس وقتها استشعروا منهم خطراً ونقلة غريبة من الموروث المسيحى السابق، فكان القمع؟ الحقيقة أن هؤلاء العلماء ارتبطوا بالتراث المسيحى العربى السابق عليهم فى تلك المنطقة عن طريق الأساتذة الذين تلقوا عنهم البدع والهرطقات.
فأفزعت علماء المسلمين وبخاصة من أهل السنة، كما أفزعت رجال الكنيسة الأرثوذكسية من قبل. حتى إن آباء الكلام لقوا مصائر مفزعة تذكرنا بعصر الشهداء ومعاناة آباء الكنيسة الأوائل.
والحقيقة أن الإرهاصات الأولى لعلم الكلام لم تكن بمثابة خروج عن روح الإسلام، بقدر ما كانت دخولا فى التراث العربى اللاهوتى الذى لم يكن يتحدث العربية من قبل، ثم نطق بها مع الآباء الأربعة». وهكذا يختتم دكتور يوسف زيدان مبحثه فى اللاهوت العربى بفصل علم الكلام إلا أنه وكما بدأ بمقدمة تجبرك على قراءتها، اختتم الحديث بخاتمة المقال الذى زاد عليه من الحقائق... حقائق نعرفها غداً فى الحلقة الرابعة والأخيرة.
الأحد يونيو 08, 2014 6:52 am من طرف Admin
» مشروع مربح من تايجر باك
الخميس فبراير 27, 2014 7:13 am من طرف تايجر باك
» ملف كامل لتدوير المخلفات
الأربعاء أغسطس 01, 2012 9:23 pm من طرف Admin
» اخبار الحمقى والمغفيلين لابن الجوزى
الأحد يوليو 08, 2012 6:23 pm من طرف Admin
» مقامات بديع الزمان الهمذاني
الأحد يوليو 08, 2012 6:21 pm من طرف Admin
» الخيميائي لباولو كويلو
الأحد يوليو 08, 2012 6:20 pm من طرف Admin
» أشهر جاسوسة عربية للموساد
الأحد يوليو 08, 2012 6:19 pm من طرف Admin
» the studay of chemical reactions
الأحد يوليو 08, 2012 6:19 pm من طرف Admin
» stereochemistry
الأحد يوليو 08, 2012 6:17 pm من طرف Admin